في أساطير الفرس القدماء قصة طريفة عن ملك من ملوكهم أراد أن يصعد في جو السماء ، ويجوب أقطارها .
وأدلى برغبته هذه إلى مشيريه الذين انطلقوا يتدبرون الأمر ، ويفكرون .
وأخيرا اهتدوا إلى حيلة حسبوها بارعة . فقد لاحظوا أن النسر طير قوى جبار ، حتى إنه ليختطف الحمل أحيانا ويطير به عبر الفضاء . أفلا تستطيع نسور أربعة أن تحمل الملك إلى حيث يريد ...؟
وهكذا جلبوا أربعة نسور صغيرة ناشئة . وسهروا على تربيتها وشحذ قواها . حتى إذا كبرت وصارت قادرة على العمل الذي ستكلف به . جاءوا بخيمة مربعة . وغرسوا فى كل ركن من أركانها عودا من الصلب يحمل في رأسه قطعة لحم كبيرة . وفى كل ركن من هذه الأركان أيضا ربط نسر كبير . وجلس الملك وسط الخيمة ... ولبث في مكانه لا يريم .
و بعد حين ، ذاقت النسور مس الجوع ، ورنت أبصارها إلى فوق فوجد كل نسر تجاهه قطعة كبيرة من لحم شهى ... فأخذت في الطيران.
جميعها ... وكانت كلما ازدادت جوعا ، ازدادت إصرارا على الصعود محاولة أن تبلغ قطع اللحم التي كانت بطبيعة الحال تعلو ، كلما علت النسور وارتفاعت
وأخيرا أدركها الكلال والأعياء، وحطم الجوع والجهد المنزوف قواها . فلا هي تدرك اللحم فتأكل ، ولا هي هاجعة مستريحة من النصب
وهكذا هوت إلى الأرض مهدودة القوى. وهوى معها الملك مدغدغ
الأضلاع .!!
أوعيتم هذه القصة جيدا ... ؟
ألا إنه عبر الزمان الطويل ، هَم بعض دعاة الدين ، مسيحيين ومسلمين أن يجعلوا من الناس نسوراً مخدوعة إذ أغرقوا في تحديثهم عن الزهد إغراقا ، جمل منه - أعنى الزهد - قطعة اللحم التي سترد عن أرواحهم حدة الجوع
كما أوغلوا في حديثهم عن الآخرة إيغالًا أنسى الناس أو كاد ينسيهم حياتهم التي يعيشونها ....
وما كان الدين الصحيح ليفعل هذا ويرضاه .
« قل من حرّم زينة الله التى أخرج لعباده ، والطيبات من الرزق ..؟ »
« قل هي اللذين آمنوا في الحياة الدنيا »
وإنها لعبارة جليلة ، وآية دقيقة التركيب ، دقيقة المفهوم .
«الطيبات من الرزق »
فهي تنفى وتستبعد كل ما كان خبيثا . وهذا هو الحد الفاصل بين ما ينبغى للناس أن يزهدوه ، ويرفضوه ، وما يحق لهم أن يأخذوه وينعموا به
فاذا ترك الإنسان الدنيا ، وعلّق بصره بالقيم التي اصطنعتها له ظروف غير طبيعية ، من زهد، واعتزال، ونبذ كامل للحياة ... أملًا في الوصول إلى تحقيق ذاته، وتحقيق تبعاته، فأنه في الأغلب من صور هذا النزوع سيجد بصره مشدودًا إلى قطعة لحم ليس إلى إدراكها سبيل ....
ولقد عاش الناس دهرًا مديدًا ، وهم مخدومون بقطع اللحم الطائرة . فعل ذلك بهم سادتهم الذين كانوا يعلون في الأرض علوا كبيرا ،
ويسخرون لشهواتهم كل شيء ويتخذون من البشر – جميع البشر - رقيقا وعبدانا ...
وكانوا يطلقون أمام أعينهم قطعا من اللحم مختلفة ومتنوعة، ليهدئوا بها روعهم ، ويختلسوا جهدهم .
تارة تتمثل قطعة اللحم في أن السلطان ظل الله في أرضه، فكل تضحيه في سبيله مثوبتها الرضوان ...
وتارة تتمثل في أن الدنيا جيفة قذرة لا تليق بذوى الهمم العالية من الرجال .. !
وتارة تتمثل في أن خالق الخلق ، قد قسم الرزق . ولكل حظه المعلوم . فمن حاول المزيد ، فقد أسخط الله ، وكفر بقضائه ..
ولكن الدين يوم جاء لم يكن غافلا عما يعمل الظالمون ولا غافلا عما يأفك المبطلون. فقد ذهب يجلجل فى وعى الناس أن ليس لله سبحانه ظل على الأرض ،سوى العدل ، والرحمة ، والمحبة .
أما السلاطين السفهاء ، فهم ظلال الشياطين ...!
وذهب يخبرهم أن الحياة لم تخلق ليبصق الناس عليها . بل ليقدسوها، ويعملوا أعظم العمل ، ويسعوا أبلغ السعى ، حتى يزيدوها عمارة ، وبهاء ، ونموا ..
كذلك بدد في قوة، أوهام العجز التي كانت تقول لهم، ليس في الإمكان أبدع مما كان .. ودعا القدرات البشرية إلى محق كل ظلم ، ومقاومة كل إعنات
وتحويل الحياة إلى مكان أفضل وأبهج وأسمى .. !
أجل
من أجل تحرير البشرية جاء موسى، وعيسى، ومحمد، وإبراهيم ، وبقية رفاقهم من المرسلين .
تحريرها من ماذا
ليس من الملوك الطاغين ، والقياصرة المدمرين، فحسب .. بل ومع ذلك ، من الأوهام التي كانت تكبل عزمها ، وتطفى نور الله في عقلها